العلاقات الفرنسية الأمريكية

العلاقات الفرنسية الأمريكية – متمردة تحتاج إلى تأديب

منتصف العام الفين وثلاثة وعشرين وفي حديث للرئيس فلاديمير بوتين عن العلاقات الفرنسية الأمريكية ذكر الرجل حادثة جمعته بالرئيس الفرنسي الاسبق جاك شيراك. كان بوتين قد سأله فيها حينها عن سبب تصرفات الامريكيين العدائية. فكان جواب شيراك له بان الامريكيين عديمو التربية. هو موقف من عشرات المواقف التي تظهر ما يكنه كل من الفرنسيين والامريكين لبعضهم من عداء.

سر العداء بين امريكا وفرنسا

لم يكن الغزو الالماني لفرنسا مطلع الحرب العالمية الثانية واحتلالها مجرد جولة من جولات الحرب. بل كان كسرا لكيان كان يعتقد بنفسه بلدا عظيما ووريث امبراطورية حكمت ذات يوم اكثر من ربع مساحة الارض. كان ذلك الاحتلال لحظة وقفت فيها الامة الفرنسية لاول مرة ذليلة خانعة تناشد الانجليز اعدائهم القدامى لانقاذهم من الغزو الالماني. في تلك الفترة كسرت هيبة فرنسا الى الابد وبدأ سعي مرير في رحلة مرة نحو اعادتها. فبدا وكأن فرنسا تتصرف كجنرال وصلته برقية الاستغناء عن خدماته اثناء وجوده في حانة. فراح يسرف بالشرب حتى ينسى. هكذا كان حال الفرنسيين عقب الحرب. وهذا ما يبرر تصرفاتهم العدوانية تحديدا حين اندلعت الثورة الجزائرية بحثا عن الاستقلال منهم. وغيرها من الثورات كما جرى في الهند الصينية وبلدان القارة السمراء.

فرنسا في أفريقيا

في تلك اللحظة خرجت لهم امريكا شرطي العالم الجديد لاجبارهم على الاستيقاظ من احلام الماضي، ودعتهم للتنحي جانبا في تغير ملفت في العلاقات الفرنسية الأمريكية. فما هو غير معلوم لدى كثيرين كانت امريكا من دعاة فرنسا للخروج من الجزائر ومنحها الاستقلال. كما كانت امريكا من اجبرت كلا من فرنسا وبريطانيا واسرائيل على انهاء عدوانهم الثلاثي على مصر العام الف وتسع وستة وخمسين. ومواقف اخرى لن ينساها الفرنسيون.

مراجعة تاريخية

التحالف الفرنسي الأمريكي

ولكن قبل ان نستفيض في تفصيل العلاقات الفرنسية الأمريكية وسبب العداء بينهم، يستلزم ان نقوم بمراجعة تاريخية للعلاقة بينهما. وهذه العلاقة بدأت قديما وتحديدا مع ولادة ما يعرف بالولايات المتحدة الامريكية. والتي كانت ما تزال مستعمرة انجليزية تتبع التاج البريطاني. وفي تلك الفترة كان الامريكيون لطرد الاوروبيين من القارة الجديدة. على اعتبار انهم امة جديدة. فناصبوا كلا من باريس ولندن العداء. لكن فيما بعد تحالفوا مع الفرنسيين لطرد الانجليز وهذا ما جرى. فكانت باريس ابرز داعم لواشنطن فيما يعرف بحروب الاستقلال عن بريطانيا العظمى.

تحالف كان قد قام على المصلحة والامال. ففرنسا كانت تكن وما زالت بالتأكيد العداء للبريطاني. والامريكيون كانوا يريدون الخروج من عباءة الانجليز. فجرى ما جرى وتحررت امريكا واستقلت العام الف وسبعمائة وستة وسبعين. وما يذكر هنا ان الفرنسيين ظلوا طويلا يمننون على الامريكيين بدعمهم لهم في تلك الحروب. كما ظن الفرنسيون ان الامريكيين جاهزون لرد الدين في حال طلبته باريس. لكن ما غفل عنه ابناء عاصمة الانوار ان من ورث السلطة في امريكا هم الانجلوسكسونيين اي المهاجرون الانجليز. وهؤلاء اعداء الفرانكفونيين الى الابد.

ملامح خلاف

لكن في تلك القرون القديمة لم تبرز ملامح خلاف في العلاقات الفرنسية الأمريكية وذلك بحكم ان الامريكيين كانوا يعتمدون سياسة الانعزال عن العالم. على اعتباره بات عالما قديما وهم العالم الجديد. لكن اعادتهم الحرب مع اسبانيا اواخر الالفية الثانية الى اعادة النظر بالامر. وبالمناسبة في الحرب تدخلت فرنسا ايضا لصالح الامريكيين وكانت هي من رعت اتفاق انهاء المعركة بين واشنطن ومدريد. تلك المعركة التي انتهت بنصر الامريكيين. وحتى اندلعت الحرب العالمية الاولى كانت امريكا ما زالت تنأى بنفسها عن الانخراط اكثر بمشكلات العالم القديم. لكنها حدث وان تدخلت بالحرب لصالح اوروبا الغربية او فرنسا وبريطانيا. وظن الامريكيون انهم بذلك قد ردوا ما عليهم من ديون.

ماكرون وبايدن

فقد انقذوا اوروبا من ان تصبح كلها المانية. وقرروا العودة الى الضفة الاخرى من الاطلسي. لكن اندلعت حرب كبرى من جديد مطلع العام الف وتسعمائة وتسعة وثلاثين. وكانت هذه المرة اكثر شراسة وفيها الالمان اكثر قوة. حينها انتظرت واشنطن حتى دكت الطائرات اليابانية حليفة الالمانية موانئهم في بيرل هاربر. ليقتنع قناعة تامة ان فكرتهم عن النأي بالنفس لا تصلح في هذا العالم. فقرروا ان يدخلوا اللعبة الدولية بل ويتفوقوا بها. وعلى رأس منجزاتهم كان تحرير فرنسا العظمى السابقة من اذلال الالمان لهم. بل ومننوا عليها هم هذه المرة بان اعادوا اعمارها وفق خطة مارشال الشهيرة تلك ما غير طبيعة العلاقات الفرنسية الأمريكية. والتي هدفت امريكا من خلالها لاعلان نفسها الوصية على القارة العجوز التي كانت قد اقتسمتها مع الاتحاد السوفيتي.

إثارة حفيظة الفرنسيين

شارل ديجول

في تلك الفترة لم يكن يثير تحفظ بريطانيا صعود الامريكيين على اعتبار ان الولايات المتحدة تتغذى من الثقافة الانجلوسكسونية. لكن من ثارت حفيظتهم هم الفرنسيون رعاة الفرنكفونية والذين لن يتقبلوا ان تتحول بلادهم لتصبح دولة هامشية تسير في ركب الامريكيين. فاعتلى السلطة في باريس العام الف وتسعمائة وثمانية وخمسين من يكره امريكا ويكرهه الأمريكيون اي الجنرال ديجول. ولتفسير سبب الكره بين الرجلين فالامريكيون بعد سقوط فرنسا بيد الالمان كانوا رافضين لفكرة ان يكون ديجول هو من يمثل فرنسا في اجتماعات الحلفاء. لكن تشرشل رئيس الحكومة البريطاني هو من دعم وجوده وديجول لم ينسى ذلك.

فحين عودته للسلطة شرع باجراءات تخفف حدة هيمنة الامريكيين على اوروبا ما سبب توتراً في العلاقات الفرنسية الأمريكية. فراح يسعى جاهدا لتأسيس اوروبا موحدة كي تكون قطبا ثالثا ينافس الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. لكن وفي عز الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو خاض الامريكيون حربا باردة ضد الرجل. وكانوا هم من اجبروه على الخروج من المستعمرات الفرنسية في افريقيا. فجرى في عهد ديجول منح الاستقلال لدول القارة السمراء. حينها قرر ديجول التفرغ كليا للصراع مع واشنطن. فاعلن ولادة جمهورية جديدة في فرنسا. وانسحب من حلف شمال الاطلس الناتو. ودشن فرنسا كعضو في النادي النووي. حتى انه كان من الشامتين بما جرى للولايات المتحدة في فيتنام لاحقا.

اقرأ ايضاً
«الحج» تخفض أسعار باقات حجاج الداخل للعام الحالي

العلاقات الفرنسية الأمريكية

وعلى هذا صارت العلاقات الفرنسية الأمريكية تقوم عى دولة ترى بنفسها شرطي العالم واخرى تريد العودة لما تعتقده من حقها في زعامة العالم. لكن كيف بامكان الفرنسيين مقارعة جبروت الامريكيين. فواشنطن ارادت عنوة وراثة فرنسا في افريقيا على الرغم من تشبعات العلاقة بين باريس وبلاد القارة السمراء. وهذا ما كان يغضب الفرنسيين لكنهم لم يكونوا قادرين على اعلان غضبهم. فما كان يتربص بهم من الشرق يجبرهم على البقاء تحت ظلال واشنطن.

والحديث عن خطر الاتحاد السوفيتي الذي لم يكن يقدر عليه احد سوى الامريكيين. فانتظر الفرنسيون حتى سقوط الاتحاد مطلع تسعينيات القرن الماضي. وفعلا بعد سقوط الاتحاد وانزياح الخطر الاحمر بدأت باريس بتعزيز القوة الاوروبية التي اسفرت فيما بعد عن ولادة الاتحاد الاوروبي بشكل أكثر قوة وتماسكا،  الذي تم تدشينه بشكل رسمي عام الف وتسعمائة وثلاثة وتسعين. والذي توحد اقتصاديا وكانت تأمل باريس ان يتحد عسكريا. لولا تدخل امريكا التي كانت تقود الناتو المعتمد كثيرا على الدول الاوروبية.

مقاومة فرنسا

جاك شيراك

في تلك الفترة اندلعت حرب في قلب اوروبا ارهبت الاوروبيين وهي حرب البلقان ذائعة الصيد. ما اثار الرعب لدى عواصم اوروبا التي اجبرت على الاستعانة بواشنطن من جديد. وكان من بين باريس. فتدخلت امريكا وتمكنت من اطفاء نار البلقان. ووصلت الرسالة لكل اوروبا لا حاكم للعالم ومتحكمة فيه الا امريكا.

لكن فرنسا ظلت تقاوم قليلا في تطوير العلاقات الفرنسية الأمريكية حتى انها لم تعلن عودتها الى الناتو طوال سنوات التسعينات ومطلع الالفية الجديدة. حتى غادرها جاك شيراك، اخر الرؤساء المعادين لهيمنة الامريكيين والرجل الذي رفض على استحياء الانخراط كليا بحرب امريكا ضد ما اسمته الارهاب. والتي اسفرت عن احتلال العراق وافغانستان.

عودة فرنسا للناتو

في تلك الاثناء كان نجم روسيا الجديدة لم يصعد بعد كثيرا فقد كان بوتين الرئيس الجديد منشغلا بترتيب البيت الداخلي. حتى ان الحديث الذي اوردناه في المقدمة عن اللقاء بين بوتين وشيراك كان يعود لتلك الفترة. لكنه لم يخرج للعلن بحكم ان واشنطن كانت في عز جبروتها. لاحقا غادر شيراك الحكم وخالفه ساركوزي. وجرى ان اعلنت روسيا عودتها للساحة الدولية بعد حربها في جورجيا العام الفين وثمانية. وجورجيا هذه تعتبر على حدود القارة العجوز. فكان اول قرار لساركوزي هو العودة للناتو والاحتماء في عباءة امريكا من جديد خوفا من روسيا. وفعلا عادت فرنسا للناتو عام الفين وتسعة. وأعادت العلاقات الفرنسية الأمريكية إلى الجانب الذي تحبة الولايات المتحدة حيث اصبحت مكبلة باتباع امريكا على الرغم من محاولات كثيرة للتحرر من هذه القيود.

لكن واشنطن تعرف كيف تدير القارة العجوز. فقد تفرجت على صعود روسيا وحربها الاولى ضد اوكرانيا والتي اسفرت عن ضم شبه جزيرة القرم عام الفين واربعة عشر. وفي تلك الحرب اكتفت واشنطن فقط بعقوبات جزئية على موسكو. وكذلك اوروبا لم تقدر كثيرا على الوقوف بوجه طموحات الرئيس الملقب بقيصر روسيا جديد. وظلت تعيش على غاز الروس حتى قرر بوتين المضي اكثر في طموحاته واعلن حربا جديدة على اوكرانيا مطلع العام الفين واثنين وعشرين. حينها كانت باريس تتمتع بعلاقات طيبة مع موسكو وكانت هي من رعت اتفاقات التهدئة السابقة بين موسكو وكييف.

دخول خط الحرب

هذه المرة لم تسمح واشنطن لفرنسا بان توئد الحرب مبكرا مستغلة حاجة باريس لـِ العلاقات الفرنسية الأمريكية. فقررت امريكا الدخول خط الحرب ودعمت اوكرانيا بالمال والعتاد وقالت للاوروبيين افعلوا مثلنا. ووصلت الامور حد اللاعودة لعبة ادركها الفرنسيون ورئيسهم ماكرون. فامريكا ارادت توريطهم في الحرب التي كلفتهم كثيرا في الاقتصاد والسمعة وهكذا فعلت. لذا ستفهم من دون تفكير لما كانت تصريحات ماكرون الصادمة. عقب زيارته الاخيرة لبكين. حين تحدث عن كون ان الصين قطب العالم الاخر. وان على الاوروبيين ان يكونوا قطبا ثالثا في عالم جديد متعدد الاقطاب ومن ضمنهم موسكو.

غضب أمريكا

تصريحات اغضبت امريكا التي كانت قد سعت لتأديب الفرنسيين قبل ذلك بقليل. حين اعلنت عن ولادة حلف جديد يضم الدول الناطقة بالانجليزية مستثنية بذلك فرنسا واوروبا. وقبل ذلك ايضا حين اجبرت استراليا على الغاء صفقة عسكرية كانت ستدر على باريس المليارات. ما أزعج الأخيرة من دون تأثير على العلاقات الفرنسية الأمريكية بسبب قلق باريس من الحرب الروسية المشتعلة في أوكرانيا.

لكن الفرنسيين كانوا ما يزالون يصرون على المقاومة. فكانت احداث الاخيرة والتي شهدت مظاهرات كبرى احتجاجا على قانون التقاعد ومن بعدها المظاهرات التي عرفت بسكان الضواحي. وبالتزامن معها انقلاب الافارقة على الفرنسيين. احداث كانت بمثابة النار على باريس والثلج على قلب واشنطن. التي فعلت الكثير بابناء فرنسا لاجبارهم على الرضوخ. ولا يعلم احد مدى قدرة ديك الفرنسيين على الصمود بوجه غول الامريكيين.

شاهد أيضاً

نتساح يهودا

نتساح يهودا – أول اعتراف أمريكي بالإرهاب الاسرائيلي

بعدما تسربت معلومات من مصادر أمريكية تفيد بأن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن قد يُعلن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *